هو أنا ولا هو أنا
من حوالي أسبوعين، لقيت ظرف غريب على باب شقتي.
ماكانش عليه اسم، ولا ختم، ولا عنوان. بس كان موجه ليا—أنا، ندى.
كنت راجعة من الشغل آخر اليوم، مرهقة ومخنوقة، وحالة مزاجي كانت تحت الصفر.
مسكت الظرف بحذر. الورق لونه باهت ومصفر، شكله متخزن من سنين.
ولقيت جواه صورة مطبوعة أبيض وأسود.
صورتي. وأنا واقفة قدام باب شقتي، بنفس لبس النهاردة، وبنفس شكل الوش المجهد.
لفت نظري تاريخ صغير مطبوع تحت الصورة. نفس تاريخ النهارده، ونفس التوقيت اللي وصلت فيه البيت.
يعني الصورة دي اتصورت دلوقتي وحالًا.
قلبي دق جامد، أعلى من صوت الشارع.
مين صورني؟
وإزاي الصورة اتصورت دلوقتي ووصلت قبلي؟
حاولت أهدى.
قلت يمكن كاميرات الجيران، هزار تقيل، أي حاجة.
بس قلبي كان بيدق بعنف.
اللي فعلاً خلاني أقشعر، إن كان فيه ضل باين ورايا في الصورة.
ضل حد واقف ورايا.
ملامحه مش باينة، قصير.
وقفت متخشبة في مكاني، مش قادرة أفسر ولا أستوعب.
دماغي بيحاول يلاقي أي تفسير منطقي، بس ولا حجة كانت مقنعة.
دخلت الشقة، قفلت الباب، ورميت الصورة على الترابيزة.
حاولت أنسى، أقنع نفسي إنها مش مهمة.
تاني يوم الصبح، لقيت الظرف تاني.
بس المرة دي فيه صورة جديدة.
صورتي وأنا نايمة.
وفي الخلفية، شخص واقف جنب السرير.
وشه أسود بالكامل، مافيهوش أي ملامح. كأنه فراغ.
اتجمدت.
قلبي وقع من مكانه.
مين دخل شقتنا؟ وإزاي؟!
مسكت التليفون ورجلي بتتهز، حاولت أتصل بحارس العمارة.
أكيد حد بيهرّج، يمكن في مشكلة كاميرات، يمكن.
بس مافيش رد من الحارس.
قفلت التليفون، وبصيت حواليّا وقلبي بيخبط.
كل حاجة ساكنة ومرعبة.
وفجأة.
رنّ جرس الباب.
لكن جرس الباب بايظ من شهور، وعمر ما بابا صلحه ولا فكر في مرة يصلحه بالرغم من طلب ماما المستمر.
أول ما سمعت صوته، حسيت الدم بيتسحب من جسمي.
إزاي حاجة بايظة تشتغل من نفسها؟
قعدت أبص في الصورة بصمت.
حاولت أركز على أي علامة تبين مين الشخص اللي واقف في الخلفية.
وشه مش باين. بس كان فيه نقطة بيضا ساطعة مكان العين الشمال، كأنها فتحة بتبلع النور.
بدأت أتلفت في الأوضة.
كل ركن فيها طبيعي، مفيش حاجة غريبة.
الشبابيك كلها مقفولة، الباب مقفول، رحت على باب الشقة وفتحته ورنيت الجرس وقلت لنفسي يمكن بابا صلحه
ضغطت على الجرس ولكنه مشتغلش.
فجأة شعر جسمي ايدي ورجلي كله وقف، حاولت اهدي نفسي
وقلت أكيد بتخيل وكل دي أوهام من ضغط الشغل.
في نفس الليلة حاولت أنام، لكن في الآخر نمت بصعوبة.
صحيت على صوت خبطة خفيفة جوه الشقة.
جرّيت ناحية الصالة.
الصالة كلها ظلمة.
بس لاحظت إن في ظرف محطوط فوق التليفزيون.
إيدي اتلجت، بس قربت وفتحته.
جواه صورة ليا. وأنا واقفة قدام باب الشقة.
بس المرة دي الشخص اللي من غير ملامح كان ماسك إيدي!
القشعريرة جريت في ضهري.
حسيت حرفياً إني أتحبست في كابوس مرعب.
سمعت همسة ورايا:
رجعنا نكمل اللي بدأناه. يا ندى.
أتلفت ورايا، وقلبي بيخبط.
ماكانش فيه حد، بس ريحة تراب بارد وريحة ورق قديم دخلت من الشباك اللي فجأة انفتح!
مسكت موبايلي وقررت أخرج فوراً من الشقة.
لكن وأنا خارجة، لقيت الباب مش بيتفتح. ولا حتى بيتزحزح.
فجأة ظهرت رسالة على الموبايل من رقم مجهول:
اللي بدأ. لازم يكمل.
إيدي اثلجت حرفيًا أول ما قريت الرسالة.
الدنيا لفت بيا، وحسيت الجدران بتقرب عليّ، والهوا بقى تقيل في صدري.
وبدأت الهمسة تطلع تاني.
بس المرة دي أقوى، كأن الشقة كلها بتنطق:
كملي. كملي.
قعدت ألف حوالين نفسي، عايزه أعرف مصدر الصوت ده، وقلبي بيخبط جامد جوا صدري.
رجعت أبص على الصورة اللي لسه في إيدي، قربتها من نور الموبايل.
العين الساطعة كانت لسه بتلمع.
لكن دلوقتي بتتحرك!
العين لفت جوا الصورة. وبقت باصة عليّا!
رميت الصورة من الرعب، وفي نفس اللحظة، سَمِعت صوت تكسير ورايا.
ببص بسرعة.
المرايا الكبيرة؟ بقت ضبابية، وعليها طبعة كف. لونها أحمر غامق!
جريت على باب الشقة، أضرب فيه برجلي وكتافي.
ولا بيتحرك، كأن المكان حابسني.
إيدي على قلبي، صوت أنفاسي بيتقطع، والدموع نازلة من غير تفسير.
رعب؟ يأس؟ كل حاجة فيا بتنهار.
فجأة. رسالة جديدة نورت الموبايل:
افتحي الدُرج اللي في الصالة.
جريت على الدرج، وفتحته بإيدين بترتعش.
لقيت جواه ظرف أسود، فتحته بسرعة.
كان جواه مفتاح صغير جدًا، وورقة متنيّة مكتوب فيها بخط مش طبيعي:
الباب اللي هتشوفيه. مش دايم.
ادخليه قبل الفجر.
في اللحظة دي، الكهربا قطعت.. نورت الموبايل.
وشفت على حيطان الصالة، باب مرسوم بالطباشير!
كنت مرعوبة اوي.. بس كنت كل اللي اعرفه دلوقتى ان مفيش حل تاني.. غير أني أكمل وأكشف لغز اللي بيحصل ليا.
قربت بخطوات ثقيلة، وشوفت على نور الموبايل مفتاح مرسوم في فتحة الباب.
وبأيد بتترعش مدت ايدي، وفجأة اتحول وبقى مفتاح حقيقي مش مجرد رسمة.
حطيت المفتاح في فتحت الباب المرسوم، وأول ما لامس الفتحة. الباب اللي كان مجرد نقش. اتحول لحقيقي، وابتدى ضباب أسود يتسرّب من حوافه.
دفعته بالعافية، ودخلت.
ومع كل خطوة في الممر حسيت كأن المكان هو اللي بيحرك رجلي في اتجاه معين.
الجدران كانت مليانة صور. ناس معرفهمش، بس كل صورة فيهم فيها نفس الشخص اللي بيطاردني.
عينيا وقعت على صورة خلت قلبي يقع حرفيا.
صورتي أنا! وإيدي في إيده. نفس الشخص اللي من غير ملامح!
وقتها، الهمسات بدأت تزيد:
رجعنا. نكمل اللي بدأناه.
صوت خبطة قوية خبطتني من ورا، اتلفت بخضة.
بنت صغيرة واقفة، عينيها كلها سواد، وباين عليها الرعب:
ارجعي. قبل ما يتقفل الباب. قبل ما تكوني في نفس مكانهم.
سمعت كلامها من غير تفكير وكأن غريزة البقاء هي اللي بتحركني.
بس الممر كان بيضيق، الجدران بتقرب، وكل حاجة بتسود.
جريت ناحية نقطة نور في الآخر، بس الأرض كانت بتسحبني لتحت، كأنها بترفض خروجي.
وقبل ما أوصل، الشخص اللي من غير ملامح مسكني من إيدي ووشه بدأ يبان.
نصه وشي أنا، والنص التاني شبه وشي، وش شيطان واخد شوية من ملامحي!
صرخت، وكل الصور على الحيطان اتكسرت، والنور انفجر في وشي.
بس الهمس فضل مستمر. يقرب أكتر وأكتر:
الدور جه. واللي بدأناه، لازم يكمل. بيكي.
فضلت واقفة مش قادرة أتحرك.
النور اللي كان قدامي بدأ يبهت، وكأن حد بيطفيه بإيده.
والشيطان اللي شبهي قرب مني أكتر، وبصوته المبحوح قال:
فاكرة أول وعد؟ لما قلتي إنك مش هتسيبيني؟
صوته كأنه صوتي، بس أعمق، كأنه طالع من حفرة عميقة من غير نهاية.
أنا ما وعدتش. أنا معرفش وعد ايه اللي بتتكلم عليه!
بس هو ما سمعنيش. أو يمكن سمع، وقرر يتجاهل.
ضحك. ضحكة غريبة، ضحكة مرعبة.
وبعدين قال:
أنتي اللي ناديتيني. أنتي اللي فتحتي الباب. الوعد ما كانش كلام، الوعد كان فعل.
دماغي هتنفجر. مش فاهمة.
أنا ما عملتش حاجة!
بس في حاجة جوايا. صوت صغير، ضعيف، بيهمس:
كنتي تعرفي. وكنتي عارفة أنه هيجي يوم وتنفذي الوعد.
كل حاجة حواليا بدأت تتكسر، الأوضة بتتقطع وتتبني من جديد.
جدرانها سودة زي الفحم، والأرضية كأنها بتتنفّس.
دي بتتنفّس فعلاً!
حاولت أجري، بس الباب اختفى.
الحيطان اتحولت لساعات. وكل ساعة بتعدّ لورا.
رجعنا نكمل اللي بدأناه.
صوته بيقرب، وكل كلمة يقولها، بتخلي قلبي يدق جامد من الرعب.
نسيتي؟ أنا هخليكي تفتكري؟
أنا. أنا مش فاكرة!
وفجأة، نور أحمر خفيف بان في الأرض.
علامة. محفورة. على شكل عين، بس مقلوبة.
وبمجرد ما لمحتها، كل حاجة حواليا وقفت.
والصوت قال:
دلوقتي. نكمّل الطقس.
كل حاجة حواليا وقفت.
الهوى سكت، الجدران اتجمّدت، حتى العلامة الحمرا اللي على الأرض بقت بتلمع من غير ما تتحرك.
هو بصلي، وقرب أكتر. ووشه بدأ يبقى واضح. بقا كله نسخة مني، نسخة مرعبة.
عنيا مطفية، شفايفي متشققة، جلدي عليه رماد.
وقال بهدوء مريب:
أنا اللي نسيتيه. أنا اللي دفنتيني.
أنا نفسك اللي رفضتيها لما خفيتي. نفسك اللي نسيتيها لما قررتِي تبقي طبيعيّة.
جسمي بيتقل، وأنا حاسة إني بغرق جوا ذكريات مش بتاعتي. أو يمكن بتاعتي.
أنا أو هو مشي ناحيتي، ولمس العلامة الحمرا، وبصوت غليظ كأن في ألف حد بيتكلم من خلاله قال:
الطقس بدأ لما نسيتي، وهينتهي لما تفتكري.
أنا كانت عايزه أنطق، بس لساني أتشل جوا فمي من كتر الخوف.
فاكرة أول مرة وقفتي قدام المراية، وسألتي: لو أنا مش أنا. أكون مين؟
فاكرة أول لما كتبتي الكلام اللي مش لازم حد يقراه؟ الورقة اللي حرقتيه؟
فاكرة أول مرة تمنّيتي لو تختفي؟
كل كلمة كانت خنجر، مش علشان تقطعني، لكن علشان تفتح حاجة. حاجة جوايا.
أنا اللي فتحت الباب.
أنا اللي طلبت.
أنا اللي وعدت.
هو مد إيده وهمس:
تعالي. نكمل اللي بدأناه.
إيده فضلت ممدودة ليا، مستني الخطوة الأولى مني.
لكن أنا كنت واقفة زي الصنم.
بس فيه حاجة جوا عقلي صرخت.
صوت صغير، بس واضح.
اهربي!
رجليا اتحركت لوحدها، عدّيت من جنبه ووقتها حسيت بإيده بتقرب من كتفي.
لكني جريت، جريت من غير ما أبص ورايا.
كل خطوة كنت بحس فيها كأن الأرض بتتهز تحتي، كأن المكان نفسه مش عايزني أخرج.
الأنوار فوقي كانت بتطفي واحدة ورا التانية
الجدران بتقرب كأنها بتتني
والهوا بيصفر في وداني بصوت أشبه بالصراخ.
ولما وصلت لباب الشقة، كان مقفول.
بس مش بالمفتاح.
مكنش في فتحة باب أصلاً.
صرخت، خبطت
لحد ما حسيت بإيدي بتنزف.
وفجأة، نور خافت طلع من فتحة صغيرة في الجدار،
وكنت حاسة إني لازم أروح للنور ده.
لازم أهرب، حتى لو للعدم.
زحفت، وبصوت بيترجى نفسي عشان أهرب، وقلت بهمس:
أنا بحلم وأكيد هصحى منه، ما أنا لازم أصحى.
ومجرد ما دخلت النور، كل حاجة اختفت.
صحيت، لقيت نفسي ع السرير، التليفون واقع جنبي، الساعة ٣:١٧ صباحًا، مفيش صوت، مفيش حركة، لا ظل ولا علامة، وساعتها ظنيت إني فعلا كنت بحلم… لحد ما بصيت في المراية.
كنت هناك… مش واقفة قدامها، لأ، جواها.
إيديا حطها على الزجاج، بؤي مفتوح على الآخر كأني بصرخ، بس مفيش صوت بيخرج، مفيش نفس، مفيش انعكاس.
وهنا، رجعت للماضي، لما كنت مجرد طفلة.
رجعت للحظة اللي أختي الصغيرة اتولدت فيها، والبيت كله اتقلب، كل الحب والاهتمام راح ليها، وأنا اتحولت لضل.
فاكرة يومها، لما دخلت الحمام وقعدت أعيط وأدعي بدعوة سودة: يا رب تاخدها؟
كتبت كلام على ورقة، مش بإيديا، كأن حد تاني كان بيملي عليا،
وسمعت صوت لأول مرة، هادي وواضح ومخيف:
أنا هنفذ ليكي طلبك… بس هتدفعي التمن.
وبعدها بكام يوم، أختي فعلاً ماتت فجأة.
البيت كله بكى، وأنا اتصدمت ونسيت كل اللي حصل… نسيت الدعوة، نسيت الاتفاق.. نسيت إن فيه تمن مستنيني.
بس هو ما نسيش.
قريني، اللي كان بيلاحقني من وأنا صغيرة، كان مستنيني أفتح ليه الباب، مستني اللحظة اللي أرجعله فيها.
ودلوقتي؟ أنا جوا المراية.
بحاول أتحرك، أصرخ، أستغيث، بس صوتي بيرتد جوا الزجاج، مفيش حد سامعني، بشوفهم… أهلي، بيمروا قدامي، أدهم أخويا واقف، بص لي لحظة كأنه حس بحاجة، بس ماما ندهتله ومشي.
أنا بنادي، بصرخ، بخبط، بس كل ده بيروح ف الهوا.
كل اللي أقدر أعمله، إني أراقب.
وشبحي، اللي في المراية، بدأ يتسلل، يخرج، يلف في الشقة، يلمس الحيطان، يقرب من سريرهم، يحاول يسيب لي أثر، يحسسهم إني لسه هنا.
بس الخوف سيطر على البيت، والقرآن بقى شغال طول الليل والنهار.
وأنا لسه محبوسة في المراية ووش قريني بيظهر جنبي في المراية كل ليلة.
بيهمس ليا: كان اختيارك… كان اتفاق بينك وبيني.
تمت
هو أنا ولا أنا هو
بقلم سلمى محمد