عصافير الجنة إهداء وهدى ومودة
قصة عصافير الجنة إهداء وهدى ومودة بقلم سلمى
كان يوم جمعة، والجو برد والناس كلها في بيوتها.
في كفر شنوان، بيت صغير على قد حاله منور على خفيف، والبخار طالع من المطبخ، وريحت الأكل الحلوة مالية المكان.
وضحك تلات بنات في عمر الزهور بيرن بين جدران شقتهم الصغيرة.
إهداء، الكبيرة، عندها ستاشر سنة، عقلها أكبر من سنها.
دايمًا بتتصرف كأنها الأم التانية لأخوتها البنات.
هدى، بنت التلاتتاشر، هادية، فيها طيبة أمها وصبرها، بتحب تقعد جنبها وقت الطبخ، تساعدها وتسمع منها حكاياتها القديمة.
أما الصغيرة، مودة، بنت التسع سنين، فكانت ملاك مبتسمة دايمًا، آخر العنقود، اللي لما تضحك، تضحك معاها الدنيا كلها.
النهارده قرروا يعملوا يوم بنات خاص بيهم. قالوا يقضوا الليلة على مزاجهم.
جهزوا الحمام، وشغلوا السخان. وصوت ضحكهم كان بيغطي على كل حاجة.
الحمام مليان بخار، والأم كانت في المطبخ، بتقلب في الأكل وهي مبتسمة، سامعة صوت ضحك بناتها وبتحمد ربنا على النعمة اللي هي فيها.
الأب كان راجع لسه من شغله، تعبان شوية، لكن صوت البنات خلاه ينسى تعب شغل اليوم كله.
لكن الحلو مبيكملش، وورا باب الحمام المقفول، كان في حاجة مرعبة تحصل.
السخان اشتغل، بس اللهب كان ضعيف، والشبابيك كلها مقفولة. وحصل تسريب في الغاز من غير ما حد يلاحظ.
صوت المية العالي غطى على صوت زن السخان، وعلى ريحة الغاز اللي كانت بتنتشر في الجو. والموت بقا بيزحف ببطء، من غير إنذار.
الساعة قربت على تسعة بالليل، ودرجة الحرارة وصلت لإقل درجة في شهر الشتا.
الأب بص لمراته وقال بنبرة هادية:
أنا هعدي على محمود صاحبي، هنقعد مع بعض شوية في القهوة، هنتفرج على الماتش وهنلعب طاولة، متقلقيش مش هتأخر.
ابتسمت له، وهي بتمد إيدها ترتب ياقة قميصه وقالت:
ماشي يا حبيبي، بس خد بالك من نفسك، الجو النهارده برد أوي.
ضحك بخفة، وخد بعضه وخرج، وقفل الباب وراه.
وفي الوقت ده، البنات التلاتة خلاص جهزوا الحمام.
وكل واحدة بتعاكس في التانية وتضحك، ضحكهم صافي، بريء، ضحك كله طفولة مفهوش هم ولا غم.
الأم وقفت على باب الحمام، بصتلهم بحنية وهي بتمسك طرحتها وقالت بابتسامة:
خلاص يا بنات، متتأخروش في الحمام، أنا رايحة أطمن على جدتكم وهرجع بسرعة.
مودة، الصغيرة، وهي ماسكة الفوطة ووشها أحمر من بخار الهوا السخن، ردت بحماس:
ما تقلقيش يا ماما، هنخلص بسرعة!
ضحكت الأم، وقالت في سرها وهي بتنزل على السلم:
البنات كبروا وبقوا يعتمدوا على نفسهم. أمتى اشوفهم عرايس؟
الأب خرج والأم كمان، والبيت بقى صامت، الا من صوت المية النازلة من الدش، وصوت خافت لضحك بدأ يهدى.
السخان القديم كان بيشتغل بصعوبة. والأكسجين بيقل واحدة واحدة.
الغاز بدأ ينتشر، من غير صوت، من غير لون، ومن غير ريحة.
قاتل صامت بيتسلل ببطء.
إهداء رفعت وشها، وقالت وهي ماسكة الحيطة عشان توازن نفسها:
هدى، افتحي الشباك شوية، الجو بقى كاتمة أوي.
لكن هدى ما ردتش. كانت قاعدة على الأرض، وصوتها مش عايز يخرج.
مودة وقعت بعدها بثواني، المنشفة نزلت من إيدها.
في اللحظة دي، صوت البنات سكت الا من صوت المية اللي بقى بينزل على ارضية الحمام.
البخار بيزيد، والغاز مالي المكان، والبيت اللي من شوية كان مليان حياة، بقى شاهد صامت على آخر نفس، وعلى موت ما اداش إنذار.
الساعة قربت على عشرة ونص لما رجعت الأم من عند حماتها.
خطواتها كانت سريعة، كانت عايزة تلحق البنات قبل ما يناموا.
في دماغها بتفكر: أكيد خلصوا الحمّام من بدري، يمكن دلوقتي بيتفرجوا على الكرتون.
وصلت للبيت، حطت المفتاح في الباب، بس استغربت، المفتاح مش بيلف، الباب مقفول من جوه.
خبطت بخفة في الأول وقالت بصوتها الحنون:
يا بنات! افتحوا لماما، أنا جيت.
لكن مافيش رد. خبطت تاني. والمرة دي زعقت وهي بتنادى:
إهداء! هدى! مودة!
الصمت كان مرعب، القلق سيطر عليها وقالت وهي بتهدي نفسها أكيد ناموا.
جابت المفتاح الاحتياطي اللي كان مع حماتها وفتحت الباب بسرعة.
أول ما دخلت، شمت غريبة، لكن عقلها ما استوعبش إنها غاز.
نادت تاني، وجريت ناحية الحمام، البخار مغطي المكان، والمية لسه نازلة، مدت إيدها وفتحت الباب بإيد بتترعش.
وفي لحظة واحدة، الدنيا وقفت، تلات ملايكة نايمين على الأرض، كأنهم رايحين في نوم عميق، ملامحهم هادية جدا، مفيش أي نفس ولا حركة.
صرخت الأم صرخة هزت الحارة كلها، صرخت مش طبيعية، صرخة أم شايفة عمرها كله راح قدام عينيها.
الجيران جريوا، والأب وصل بعدها بدقايق، لكن خلاص، القدر كان سابقهم بخطوة والعمر انتهى لحد كده.
الليل اتقلب جحيم في كفر شنوان، صوت الإسعاف، صريخ الأم، والناس بقت بتضرب كف على كف وهما متجمعين حوالين البيت
كله كان بيحاول يفهم إيه اللي حصل.
إزاي تلات بنات صغيرين يموتوا في لحظة واحدة؟
النيابة جت، ومعاهم رجال المعمل الجنائي. دخلوا الحمام، شافوا السخان الصغير اللي كان لسه شغال واحد من الضباط بص للمكان وقال بهدوء:
واضح إن السبب تسريب غاز.
الكلمة دي نزلت على الكل زي الصاعقة.
تسريب، حاجة بسيطة زي كده، كانت كفيلة تموت تلات أرواح بريئة.
الخبير شرح للأب والأم:
الغاز ده قاتل صامت، مالوش ريحة واضحة زي ما الناس فاكرة.
لما المكان بيكون مقفول، بيبدأ ياخد الأوكسجين، ولما النسبة تقل في الهوا، الإنسان بيغيب عن الوعي من غير ما يحس.
دوخة بسيطة، بعدين فقدان وعي، وبعدها الموت لو متلحقش بسرعة.
الأب دموعه غرقت وشه وهو بيسمع كلامه، والأم قاعدة على الأرض مش قادرة تستوعب اللي بيحصل.
مفيش نار، حريق، مفيش أثر مقاومة، لكن في تسريب غاز قدر يسرق تلات أنفاس بريئة.
في الأيام اللي بعدها، كل بيت في القرية بدأ يصلح أي جاهز بايظ عندها. الناس بقت تفتح الشبابيك، وتشوف أنابيبها، وتعمل صيانة لسخانتهم القديمة.
خلاص الكل اتعلم الدرس.
الأمان في الحذر، وأنك تعمل صيانة كل فترة على مصدر الغاز. وحذار تسيب السخان شغال والمكان مقفول.
الغاز قاتل ملوش صوت ولا شكل، بس لما يختار ضحيته، ما بيديهاش فرصة حتى تهرب إلا لو كان ليها عمر تاني.
طلعت شمس اليوم اللي بعده، نورها باهت حزين.
الناس كلها كانت لابسة سواد، والعيون كلها دموع.
في نص النهار، خرجت الجنازة. تلات نعوش صغيرة متغطيين بقماش أبيض، ريحته طاهرة كأنها ريحة جاية من الجنة.
الأم ما كانتش قادرة تمشي، والأب شايل نفسه بالعافية.
الناس كانت بتبكي بصمت، بيبكوا عشان كل واحد فيهم شاف في البنات دول ولاده هو، وشاف الخطر اللي ممكن يكون متربص في بيته وهو مش واخد باله.
واحد من الناس قال بعد الدفن:
يا جماعة، افتحوا الشبابيك، خلو السخانات في أماكن مفتوحة، راقبوا أولادكم.
وبعد ما اتقفل القبر عليهم واتغطى بالتراب، رفعت الأم راسها للسما، ودموعها نازلة بحرقة، وقالت بصوت مكسور:
"يارب… الصبر من عندك، يارب.
رسالة من أم إهداء وهدى ومودة
أنا مش طالبة غير حاجة واحدة، خلي بالكم من أولادكم. افتحوا الشباك قبل ما تشغلوا السخان، بصوا على الأنابيب، وكمان على السخانات القديمة، ما تقولوش مش هيحصل عندنا. أنا كنت بقول كده برضه. لحد ما حصل اللي حصل.
أنا فقدت تلات ملايكة، ضحكتهم كانت بتنور البيت.
ما تستناش المصيبة عشان تتعلم، خد الحذر قبل ما الندم يبقى ملوش معنى.
اللهم احفظ كل بيت، واحمي كل أم من وجع الفقد، وخلي أولادنا دايما في حضن الأمان.
عصافير الجنة
إهداء وهدى ومودة
تمت بقلم سلمى