قصتي بعد الممات: قصة سلمى

 قصتي بعد الممات: قصة سلمى

قصتي بعد الممات: قصة سلمى


قصتي بعد الممات: قصة سلمى بقلم سلمى

أنا مها، معلمة قرآن.

عمري ما كنت أتخيل إن الشغل اللي بحبه، اللي هو أقرب حاجة لقلبي، هيكون هو السبب إني أعيش تجربة فوق إدراك العقل.

كل حاجة بدأت بعد وفاة سلمى.

سلمى كانت مختلفة، هدوءها مش طبيعي، وملامح وشها الملائكي بيشدك من أول نظرة.

كنت دايمًا أقولها بابتسامة:

وجهك منور بالقرآن يا سلمى، ربنا يتمم ليكي الحفظ.

وكانت تضحك وترد عليا:

بدعي كل يوم يا معلمتي، ربنا يكتبلي أختم القرآن قبل ما أموت.

ويا سبحان الله، ربنا استجاب لدعوتها، وقبل الولادة بأيام، ختمت القرآن بصوت ملائكي كله خشوع.

كانت بتقرأ والدموع في عينيها، كأنها حست إن دي آخر مرة ليها.

بعدها بكام يوم، جالي خبر وفاتها، نزيف مفاجئ في المخ بعد الولادة.

ما استوعبتش، حسيت بحزن رهيب وجالي اكتئاب وفكرت أسيب حلقة التحفيظ.

تحاملت على نفسي وأول ما دخلت من الباب، حسيت أن الحلقة مبقاش ليها طعم، الحلقة كانت ناقصها سلمى.

مكانها الفاضي كان موجع أكتر من أي حاجة شوفتها في حياتي.

وأول ما قعدت، قلت للبنات بعيون مليانة دموع: تعالوا نقرأ سورة يس على روحها.

فتحنا المصاحف، وإحنا بنبدا من يس، حسيت فجأة بريحة مسك مالية الغرفة، ريحة كنت بشمها دايمًا وهي داخلة علينا. ولما وصلنا لنهاية السورة، سمعت صوتها بيرن في دماغي.

وقتها حسيت بشيء غريب، مش خوف، لأ، راحة.

كأنها بتشاركنا الحلقة من مكان تاني، وبتقولنا: كملوا، أنا معاكم.

بعدها بأسبوع، وأنا بوضب المصاحف، لقيت ورقة صغيرة جوه مصحف سلمى، الورقة مكتوب فيها:

لو في يوم غبت عن الحلقة، افتحي تسجيل محفوظ في الفون عندي، سجلته مخصوص ليكي، وفيه كلام نفسي تسمعيه.

دموع غسلت وشي وأنا بقرأ الورقة وقررت أطلب من جوزها يجبلي تليفون سلمى.

مسكت موبايلها اللي جابه زوجها وطلبت منه إذن أشوف التسجيل.

قاللي بصوت حزين: هي فعلاً كانت عاملاه قبل الولادة بأيام.

فتحته، الصوت بدأ بهدوء. وصوت نفسها باين فيه التعب وقالت بصوت بينهج:

يا معلمتي لو التسجيل ده اتسمع، يبقى أنا خلاص روحت لمكان أحسن، لمكان أريح من الدنيا دي.

يمكن أكون فرحانة إني ارتحت، بس والله قلبي هيبقى موجوع عشانكم.

مين هيشجعكم على الحفظ؟ ومين هيزن عليكم لو حد كسل؟

ومين هيرن عليكي ويقولك: يلا يا معلمتي، متتأخريش علينا؟

عايزة أطلب منك طلب واحد بس.

أوعي توقفي الحلقة، مهما كانت الظروف.

 وبعدين ضحكت بخفة وقالت:

أوعي تسيبي مكاني فاضي، هاتي واحدة تاني تكمل بدالي.

دموعي نزلت، وقلت لنفسي حتى وأنتي ميتة خايفة علينا إننا نتفرق من بعدك.

آه يا سلمى على قلبك الصادق، وروحك اللي بتحب القرآن بصدق نادر.

اليوم ده رجعت الحلقة وأنا مختلفة. السكينة كانت ملياني. ولما فتحت المصحف، لقيت العلامة اللي كانت بتحطها سلمى، على صفحة 47 في البقرة:

واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.

قريتها بصوت عالي، وحسيت كأن سلمى بترد عليا:

أنا مت فعلاً، بس روحت للي كنت بقرأله طول عمري.

فات أسبوع على اليوم اللي سمعت فيه تسجيلها، وكل يوم بحس إن روح سلمى لسه بتلف حوالينا.

مش بطريقة تخوف، لأ، بالعكس تمامًا. كأن نسمة طاهرة بتمر في المكان، تهدي القلوب.

ومن غير ما نعرف ليه، كنا بنحس بالراحة والسكينة فجأة.

في الحلقة، البنات بدأوا يرجعوا يضحكوا تاني.

وفي كل مرة نبدأ فيها قراءة، نحس بنفس الريحة دي، ريحة المسك اللي كانت بتفوح لما تدخل سلمى علينا.

كأنها بتزورنا، عشان تطمن إن كل حاجة ماشية زي ما كانت موجودة وهي عايشة.

وفي يوم، وأنا بقلب تاني في المصحف بتاعها، المصحف اللي ماقدرناش نرجعه مكانه، لقيت ورقة كمان، بخطها الجميل:

لو يوم غبت، ما تبطلوش وردكم خالص.

قريتها أكتر من مرة، ودموعي نازلة بهدوء، الورقة حسيتها دافية وكأنها مكتوبة حالًا.

وفجأة حسيت بحاجة غريب، ريحة حلوة مرت من جنبي، وصوت خفيف جدًا.

كنت لوحدي، ومع ذلك ماخفتش، ولكن حسيت بسلام وراحة نفسية.

الليلة دي حلمت بيها تاني المكان كان واسع جدًا، كله نور، وسلمى قاعدة تقرأ سورة البقرة بصوتها الملائكي.

بس المرة دي، كان حواليها أطفال صغيرين، بيضحكوا، وبيرددوا وراها، ومنهم طفل واحد، شبهها بالظبط.

لما شافتني قامت وبصتلي وقالت بهدوء:

قلتلك مش هغيب ولا مرة عن الحلقة يا معلمتي. ولا هسبكم تشتتوا من بعدي.

صحيت على اذان الفجر، وفتحت المصحف اللي دايمًا بحطه جمبي، ولقيت الصفحة مفتوحة على نفس السورة، بس الآية كانت مختلفة:

الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب.

قريتها بصوت عالي، ودموعي نازلة على خدي، وحسيت إن سلمى فعلاً عايشة دلوقتي في مكان أفضل، وإني لازم أكمل اللي بدأته بيها.

من بعدها، الحلقة اتغير حالها، البنات بقوا أكثر هدوء، أكثر التزام. كل واحدة فيهم كانت بتقول إنها بتحلم بسلمى تشجعها، أو بتسمع ليها وهي نايمة.

 وفي مرة، واحدة قالتلي: يا معلمة، وهي بتسمعلي في الحلم قالتلي قولي لمها متخافش، وأن شاء الله هتسمع كويس.

وقتها اتأكدت، أن في أرواح بتسيب أثرها فينا، وبتفضل حوالينا بتحاول تحمينا.

عدى شهر كامل بعد الحلم الأخير، وكل يوم كنت بحس إن سلمى لسه موجودة معانا.

يمكن مش بنشوفها، بس أثرها كان واضح في كل تفصيلة صغيرة. في كل بنت بتمسك المصحف بإخلاص، وفي كل صوت بيرتجف وهو بيقرأ أول آية.

وفي يوم الجمعة، بعد ما خلصنا الحلقة، قلت للبنات: تعالوا نروح المدافن، نشوف سلمى وندعي ليها.

الكل وافق من غير تردد، كأنهم مستنيين أقولهم كده. واحدة من البنات إشترت ورد أبيض، وبعدين مشينا سوا في طريق طويل ناحية المقابر، مكنش فيه هوا جامد، بس فيه مطر خفيف، والسماء لونها ازرق سماوي ناعم. 

ولما وصلنا، وقفنا قدام قبرها وقرأنا ليها سورة الفاتحة، وبعدها سورة الملك، السورة اللي كانت بتحبها كتير.

وأول ما وصلنا لآخر صفحة، هبة ريح بسيطة علينا، والورد

الأبيض اللي كنا حاطينه فوق القبر، اتحرك لوحده، كأن في حد بيعدله مكانه.

البنات بصوا لبعض، وواحدة فيهم قالت بخفوت: يا معلمة، ريحة المسك رجعت تاني.

ابتسمت من غير ما أتكلم، كنت حاسة إننا مش لوحدنا.

رجعنا بعد كده، وأحنا في حالة سكينة وراحة نفسية. ومن اليوم ده، الحلقة بقت ليها طابع تاني، مش مجرد حلقة تحفيظ قرآن.

وفي كل مرة نبدأ الحلقة، بنحس بسلمى معانا، صوت الدعاء قبل الحلقة بقى أوضح، الخشوع زاد، وحتى البنات اللي كانوا بيغيبوا كتير، بقوا يواظبوا كأن قوة خفية بتشدهم.

وفي يوم كنت براجع في الدفتر بتاع سلمى، لقيت في آخر صفحة جملة واحدة، مكتوبة بخط صغير جدًا:

أنا عند الله، وما عند الله خير وأبقى.

فضلت أبص للكلمة دي فترة طويلة، وبعدين اتنهدت وقلت:

مبسوطة ليكي يا سلمي لأنك دلوقتي في المكان اللي كنتي بتحلمي بيه ديما.

ومن بعدها، بقيت كل ما أبدأ الحلقة أقول للبنات:

ابدؤوا بالدعاء لسلمى، علشان كل مرة بنقرأ، هي بتكون معانا.

بعد شهور من اللي حصل، بدأت بنات جداد يدخلوا الحلقة.

وكانت في بنت صغيرة كده، اسمها هالة، وشها منور بطريقة غريبة، زي سلمى أول مرة شوفتها فيها.

في أول يوم ليها، قعدت في نفس المكان اللي كانت بتقعد فيه سلمى، من غير ما حد يوجهها، كأن الكرسي ناداها.

في نص الحلقة، سألتها أكتر سورة بتحب تقرأها.

قالتلي وهي مبتسمة بخجل:

أنا بحب سورة البقرة جدًا، ماما كانت دايمًا بتقراها وهي حامل فيا.

سكت لحظة، كلامها صدمني، ده كان نفس كلام سلمى في أول حلقة معانا. البنات كلهم بصولي، وأنا مش قادرة أرد.

الريحة، نفس ريحة المسك دي، رجعت تملأ المكان، لكن المرة دي كانت أهدى، أنقى، زي نسمة بتعدي وتسيب راحة نفسية.

كملت هالة قراءة، وصوتها، كان فيه نفس الترتيل، نفس الهدوء.

ولما خلصنا الحلقة هالة قالتلي:

يا معلمة، أنا كنت بحلم ببنت طيبة بتعلمني القراءة صح،

كانت دايمًا بتضحك، وتقولي: خدي بالك من نطق الآية دي.

ابتسمت وأنا مش قادرة أمنع دموعي.

 سألتها: واسمها كان إيه؟

 قالت وهي بتفكر شوية:

 مش فاكرة بالظبط، بس تقريبا اسمها سلمى.

سكت، وبصيت على المكان اللي وراها. النور اللي داخل من الشباك وقع على المصحف اللي في حضنها، وانعكس على الجدار بشكل غريب، واتشكلت كلمة مش واضحة.

قربت وبصيت، الكلمة كانت: هدى.

قلبي ارتجف، ودموعي نزلت من غير ما أحس.

همست وأنا ببص للنور:

أيوه يا سلمى، كنتي دايمًا هدى لينا.

النور فضل يزيد شوية شوية، لحد ما حسيت إن المكان كله اتغطى بسكينة غريبة، كأنها كانت بترد عليا، من غير صوت.

وفجأة هب نسيم بسيط زمن غير سبب، ورق المصحف اتقلب لوحده، لحد ما وقف عند آية واحدة، كأنه رد منها، قريت بصوت خافت:

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لهم جنات تَجْرِي من تحتها الأنهار.

ابتسمت، ودموعي نزلت على وشي وأنا بقول وصلت الرسالة يا سلمى.

قفلت المصحف بهدوء، وريحة المسك ملت المكان من تاني.

رفعت راسي وبصيت ناحية الركن اللي كانت بتقعد فيه، ولوهلة.

افتكرت إني شفت ظلها قاعد، هادية، مبتسمة، زي ما كانت دايما.

ثم اختفى النور ببطء، واتبقى في الجو صدى صوت خافت بيردد:

 ألا بذكر الله تطمئن القلوب.

تمت 

بقلم سلمى محمد



تعليقات