قصة ٤٥ يوم جواز بقلم سلمي

٤٥ يوم جواز

٤٥ يوم جواز

أنا أم أسماء عروس لفيوم…

العروسة اللي رمت نفسها في البحر بعد ٤٥ يوم جواز، وسابت وراها رسالة توجع القلب.
قالوا انتحرت، قالوا ما استحملتش المعاملة في بيت العيلة، بس أنا أكتر واحدة عارفة بنتي.
دي كانت عاقلة، ومتدينة، وعمرها ما كانت ممكن تؤذي نفسها.
كانت دايمًا تقولي:
يا ماما، اللي بينتحر بيقابل ربنا ظالم نفسه وهيدخل النار، وأنا مستحيل اعمل كده.
يعني إزاي فجأة تعمل كده؟
إزاي تموت نفسها؟
واللي دمر نفسيتي أكتر، إنهم لما لقوها، كانت رابطة طرف فستانها الأبيض في رجلها. منظر مش داخل عقلي.
حد ناوي يرمي نفسه في البحر، هيفكر يربط فستانه عشان جسمه مايتكشفش؟
يعني كانت خايفة على نفسها حتى في لحظة موتها؟
ولا يمكن… حد هو اللي عمل فيها كده؟
من ساعتها وأنا مش عارفة أنام.
كل تفصيلة بتلف في دماغي زي دوامة.
الشرطة قالت انتحار، بس أنا شايفة إن في حاجة ناقصة.
 في سر أنا لسه مش فاهماه.
أسماء كانت متجوزة من ٤٥ يوم بس، زواج عن حب، الكل كان بيحكي عنه.
لكن انا كنت رافضة الجوازة دي مكنتش مناسبة ليها، قولتلها بلاش بيت عيلة في الريف وانتي متعلمة وطول عمرك عايشة في المدينة.
قلتلي وقتها: بحبه ياماما 
رديت عليها: بس الحب لوحده مش كفاية، مش هيعمر في بيت مليان غيرة وضغوط.
مقتنعتش بكلامي واتجوزت وعاشت في بيت العيلة، ومن أول يوم بدأت المشاكل.
أهل جوزها كانوا بيتدخلوا في كل صغيرة وكبيرة، مفيش خصوصية، ولا راحة، ولا احترام لحدودهم كزوجين.
وسلايفها كانوا شايفينها متكبرة بس لأنها متعلمة عنهم، هي الوحيدة اللي معاها بكالوريوس تربية.
والباشا جوزها؟ ريح دماغه من أهله ولا حاول يعمل حدود بينهم وبين مراته، وسابهم عليها، ولا في مرة دافع عنها.
وفي يوم، مستحملتش، وجريت على #بحر_يوسف،
 قلعت دهبها، وحطته جنب المصحف، وكتبت ورقة صغيرة:
يا رب سامحني وارحمنى.
وسابت كل حاجة، ورمت نفسها في البحر.
بعدها بيوم، كتب جوزها على حسابه:
٣٠/٩/٢٠٢٥ كان أسوأ يوم في حياتي، يوم فقدت فيه اللي كانت أقرب لي من حبل الوريد. عيشتيني في الجنة ٤٥ يوم، كنتِ ملاك مش بشر، الله يرحمك ويسكنك فسيح جناته يا عروسة الجنة.
بس أنا… أمها، لسه مش مصدقة، ولسه بدور على الحقيقة، لإن بنتي عمرها ما تعمل حاجة تغضب ربنا، عمرها ما تنت،حر. 
كل ما أقفل عيني، بشوفها قدامي، واقفة عند باب الأوضة، شعرها مبلول، وفستانها لازق في جسمها كأنه لسه خارج من المية.
ما بتتكلمش، بس عينيها بتسألني نفس السؤال اللي أنا نفسي مش لاقية له جواب.
كل الناس، قالوا انتح رت وخلاص الموضوع مفهوش كلام.
بس أنا قلبي مش مصدق. أسماء مستحيل تعمل كده، دي كانت بتصلي وتصوم وعارفة الحلال من الحرام، بتخاف تعمل أي ذنب، ما بال ترتكب معصية زي دي.
يبقى إزاي تن،تحر؟

بدأت أفتّش في حاجتها…
لقيت الدفتر اللي كانت بتكتب فيه كل حاجة.
صفحات مليانة بكلام مقطوع، كلمات مش مفهومة،
بس في صفحة منهم كان مكتوب بخط متوتر:
كل ما الليل بييجي، بيقعدوا يهمسوا باسمي… بيقولولي تعالي.

ومن يوم ما قريت مذاكرت بنتي وأنا حاسة إن في حاجة غلط. 
وفي الاخر قررت أروح بيت جوزها، كنت عايزة أفهم.

وأول ما دخلت بيتهم، حسيت ريحة المكان اتغيرت، مش نفس الريحة اللي كنت بشمّها لما كنت باجي أزور بنتي.
 ريحة بخور تقيل، والحيطان متعلقة عليها صور جديدة، عروس وعروسة.

مستحيل يكون اللي في بالي حصل.
سمعت ضحكة ست طالعة من جوه، ضحكة واطية بس مليانة حياة، ضحكة أكدت شكي.
خرج هو من الأوضة، اتفاجئ لما شافني، وقال بنبرة مهزوزه:
 أهلاً يا طنط.
وراحت طالعه بنت، لابسة فستان فاتح، وفي صباعها نفس الدبلة اللي كانت بنتي لابساها.
ساعتها الدنيا لفت بيا، بسرعة كده اتجوز، بسرعة نسى بنتي وإن فيه روح راحت بسببهم.
بصيت حواليا، كل حاجة كانت متغيرة، كل صور بنتي اتشالت. 
بصيت له وأنا مش مصدقة اللي قدامي، الكلمة خرجت من بُقي غصب عني:
اتجوزت؟ اتجوزت بسرعة كده؟ لسه الشهرين ما كملوش على موتها!
ما لحقش يرد، طلعت أمه من المطبخ وهي ماسكة صينية شاي،
وبكل برود قالت:
أيوه يا أختي، أومال يعني؟ هيفضل من غير جواز ليه؟ الحياة ما بتقفش على ميت.
قلتلها بصوتي العالي رغم رعشة جسمي:
ده اتجوز بنتي عن حب، كان بيقولي مش هيقدر يعيش من غيرها!
ضحكت ضحكة قصيرة وقالت:
الناس بتقول كتير وقت الحب، بس الحياة بردوا مش هتقف لو ماتوا.
بصيت له تاني، مستنية منه كلمة، أي كلمة، اعتذار، دمعة، حتى نظرة ندم.
لكنه كان واقف ثابت، وشه بارد، مفيش مشاعر.
ساعتها بس حسيت إن البرد اللي في المكان مش من الهوا…
 ده من القلوب اللي ماتت جواهم الرحمة.
خرجت من البيت وأنا حاسة إن رجلي مش شايلاني، وسمعت صوت البحر في وداني بينادي.
بس المرة دي، مش بيناديها، بيناديني أنا.
وكل خطوة كنت باخدها سمعت صوت بنتي في وداني، 
 بتقولي بنبرة وجعها القديمة:
 فوقي يا ماما.
هزيت راسي واستغفرت ربي وإزاي أنا فكرت أعمل زي بنتي. وفجأة لقيت نفسي برجع لبيتهم تاني ولكن بدل ما ادخل بيتهم، وقفت عند باب الزريبة.
الزريبة اللي كانت بنتي بتدخلها كل يوم، بتنضفها، وتكنسها، وتشم ريحة الطين والعفن وهي بتعيط في سرها على بختها.
الباب كان مفتوح، وسمعت صوتها بيرن في وداني، صوتها كان فيه نغمة خوف.
خطوة ورا خطوة، دخلت، ووقفت قدام الركن اللي قالتلي عليه زمان، اللي كانت بتقوللي إنها بتتعب فيه وهي بتنضف الطين.
ولقيت حاجة مش طبيعية.
بقعة سودة على الأرض، مش طين، ولكن كأنها بقايا حريقة قديمة.
الهوا بقى تقيل فجأة، وحسيت إن في حاجة ورايا بتتحرك.
 لفت بسرعة، بس مافيش حد.
 بس الباب كان بيتحرّك رايح جاي، قلبي دق بسرعة،
 بس اللي زاد رعشتي لما سمعت صوت خافت جدًا، زي همس
 وصوت بنتي بيقول من بعيد:
 ماما… كنت هنا.
صرخت بأعلى صوتي، وجريت برا الزريبة، بس وأنا خارجة، لمحت في الأرض حاجة صغيرة، حجاب ملفوف بخيط أحمر، زي اللي أسماء كانت حكيتلي إنها شافته أول مرة دخلت بيت جوزها.
ساعتها قلبي وقع في رجلي، وعرفت إن اللي حصل لبنتي، ماكانش صدفة، ولا انتحار، خدت الحجاب في إيدي وأنا مرعوبة،
مش عارفة افتحه ولا مفتحهوش.
قعدت يومين مش عارفة أعمل إيه، لحد ما واحدة جارتي قالتلي على شيخ معروف في البلد، بيفك الأعمال ويفهم في الحاجات دي.
رحت ليه الصبح، كنت ماسكة الحجاب في كيس، وأنا قلبي بيرتعش كأني رايحة أفتح باب جهنم.
الشيخ خد الكيس، بص فيه، وبعدين وشه اتغير. وبعدين قالي:
مين اللي كان في البيت ده يا بنتي؟
 قلتله ودموعي بتنزل على وشي:
 بنتي… أسماء. كانت متجوزة فيه.
سكت شوية وقال:
اللي عامل العمل ده ست… ست قريبة منها جدًا.
اتجمدت مكاني.
سألته وقلبي بيخبط في صدري:
 يعني حماتها؟
قالي:
ممكن… أو واحدة من البيت. العمل معمول عشان تتعب نفسياً، وتكره حياتها، وتكره نفسها، وتشوف الموت راحة.
كلماته كانت زي سكاكين بتقطع في قلبي. الشيخ بدأ يقرا،
وفجأة الحجاب اتحرك لوحده، الخيط الأحمر اتفك، وطلع منه شعر أسماء، وورقة مكتوب فيها اسمها واسم جوزها، وحروف تانية غريبة، متلخبطة، زي طلاسم.
الشيخ رفع راسه وقال بهدوء مريب:
العمل ده بيخلي الإنسان مغيب وضعيف، والضعف ده السبب أن الشيطان يقدر يسيطر على الشخص المعمول ليه العمل.
لما سمعت كلامه حسيت إن الدنيا بقت سودة، بس كان في سؤال واحد بيرن في دماغي:
ليه؟ ليه حد يعمل كده في بنتي اللي كانت طيبة، ماعرفتش غير الحب والنية الصافية؟
لما الشيخ فتح الحجاب، وطلع منه الطلاسم والشعر، قلبي كان هيقف.
مكنش هيقف من الطلاسم، لكن من الورقة الصغيرة الملفوفة مع الشعر.
على الورقة كلمات مكتوبة بخط واضح لم أعد أؤمن. لم أعد أخاف.
فضلت أصرخ وأنا ببص للشيخ: بنتي آااه يا بنتي؟
رد الشيخ بصوت مخنوق: العمل اللي معمول لبنتك يقدر يغير اللي جوا الإنسان. يخلي قلبه يحس بحرمان، يخليه يفقد الإيمان بالله شوية بشوية.
كلامه كان بيدبحني، بنتي أنا ماتت كافرة، أنا اللي ربيّت بنتي على دين، على خشوع، على خوف من ربنا.
هي كانت بتقولي دايمًا: يا ماما، اللي بينتحر ما يروحش للجنة.
إزاي تبقى هي نفس اللي كتبت الورقة دي؟ إزاي البنت اللي كانت بتصلي قيام الليل، تكتب لم أعد أؤمن؟
رجعت لبيتهم وأنا مش شايفة. دخلت البيت وأنا أصرخ فيهم: حد يقولي عملتوا في بنتي كده ليه؟ مين اللى عمل العمل ده لبنتي.؟
أمه ضحكت بصوت قاسي وقالت: أنت بتقولي ايه ياست يا خرفانه أنت، يلا أطلعي برا


أما هو بقى؟ بص في وشي بنظرات مالهاش معنى، وقال: الماضي انتهى يا طنط. وكلامك ده ملهوش لزمة
بصيت لأمه وقلت: أنتي السبب في موت بنتي، كلكم السبب.
أمه ضحكت وقالت: ده كلام فارغ، بنتك كانت مريضة نفسيًا، ويلا اطلعي برا بالذوق.
حسبي الله ونعم الوكيل فيكي انتي وابنك وأن شاء الله ربنا هياخد حق بنتي منكم ولو مش في الدنيا يبقا في الآخرة.
وخرجت من بيتهم مكسورة، وجملة، لم أعد أؤمن بترن في وداني.
العمل ما قصدش يموتها بس، العمل خلصها من إيمانها. خلصها من دينها قبل ما يخلصها من الحياة.
بنتي اتسرق منها إيمانها قبل ما تموت.
مشيت في الشارع وأنا تايهة، كنت ناوية أركب أول مواصلة وأمشي، أسيب كل ده ورا ضهري، وهسيب ربنا يخدلي حقي منهم.
بس قبل ما أركب، حسيت بحاجة غريبة. مش ألم، ولا خوف…
 إحساس، كأن قلبي اتسحب فجأة، زي ما يكون في حاجة بتناديني من بعيد، مش عارفة ليه، بس كنت حاسة إن لازم أرجع.
ورجعت. رجلي خدتني لوحدها. ولما وصلت عند بيتهم،
 سمعت صوت خناقة من جوا.
صوت جوز بنتي كان عالي، بيزعق بصوت مبحوح:
إنتِ اللي عملتِ كده! إنتي السبب في كل اللي حصل! عشان أنا رفضت بنت أختك وأتجوزت أسماء!
وقبل ما أستوعب، سمعت صوت أمه، بنفس البرود اللي خلاني أكرهها من أول مرة شفتها فيها، بتقوله:
أيوه أنا اللي عملت كده، عشان مكنتش موافقة على الجوازة دي، وقولتلك بنت المدينة ماينفعوش لحياة الريف، دول مايتحملوش ولا تعب، ولا طين!
الدنيا لفت بيا. الهوى بقى تقيل، وصوتهم بدأ يختفي وأنا واقفة عند الباب، إيدي بتترعش، قلبي بيخبط كأنه عايز يخرج من صدري.
رجعت خطوة لورا، ودموعي نزلت على وشي، قلبي كان بيصرخ.
اللحظة دي أتأكدت أن حماة ابني هي السبب، هي اللي عملت العمل لبنتي، وهي اللي خربت حياتها وهي في عز فرحتها.
بنتي ما انتحرتش، بنتي كانت ضحية ظلم، ضحية سحر، ضحية قلوب سودة.
رفعت إيدي للسماء، ودموعي بتغسل وشي:
يا رب، إنت العدل، خدلي حقي منها، يا رب اجعلها تذوق نفس الوجع بمرض، بندم، بأي حاجة.
ومن اليوم ده، حياتها اتقلبت، المرض مسك فيها من غير سبب، والدكاترة عجزوا يفسروا حالتها، وكل ما كنت أشوفها بتتألم، كنت أقول في سري:
العدل الإلهي ما بيتأخرش.
تمت بقلم سلمى محمد 


تعليقات